فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة الكافرون:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)}
لم يكن العرب يجحدون الله ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه. أحد. صمد. فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره، ولا يعبدونه حق عبادته. كانوا يشركون به هذه الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء. أو يرمزون بها إلى الملائكة.. وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله، وأن بينه- سبحانه- وبين الجنة نسبا، أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة، وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من الله كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}..
ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق الله للسماوات والأرض، وتسخيره للشمس والقمر، وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله}.. {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله}.. وفي إيمانهم كانوا يقولون: والله. وتالله. وفي دعائهم كانوا يقولون: اللهم.. الخ.
ولكنهم مع إيمانهم بالله كان هذا الشرك يفسد عليهم تصورهم كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم، فيجعلون للآلهة المدعاة نصيبا في زرعهم وأنعامهم ونصيبا في أولادهم. حتى ليقتضي هذا النصيب أحيانا التضحية بأبنائهم. وفي هذا يقول القرآن الكريم عنهم في سورة الأنعام: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا. فقالوا هذا لله- بزعمهم- وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله. وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم، وليلبسوا عليهم دينهم، ولو شاء الله ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه. سيجزيهم بما كانوا يفترون، وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. {سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين}.
وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم، وأنهم أهدى من أهل الكتاب، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية، لأن اليهود كانوا يقولون: عزير ابن الله. والنصارى كانوا يقولون: عيسى ابن الله. بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرأبتهم من الله- بزعمهم- فكانوا يعدون أنفسهم أهدى. لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى.. وكله شرك. وليس في الشرك خيار. ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقا!
فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يقول: إن دينه هو دين إبراهيم- عليه السلام- قالوا: نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة وسطا بينهم وبينه؛ وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه! وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم، وله فيهم وعليهم ما يشترط!
ولعل اختلاط تصوراتهم، واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه.. لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة، يمكن التفاهم عليها، بقسمة البلد بلدين، والالتقاء في منتصف الطريق، مع بعض الترضيات الشخصية!
ولحسم هذه الشبهة، وقطع الطريق على المحاولة، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق.. نزلت هذه السورة. بهذا الجزم. وبهذا التوكيد. وبهذا التكرار. لتنهي كل قول، وتقطع كل مساومة وتفرق نهائيا بين التوحيد والشرك، وتقيم المعالم واضحة، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير:
{قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين}.
نفي بعد نفي. وجزم بعد جزم. وتوكيد بعد توكيد. بكل أساليب النفي والجزم والتوكيد.. (قل).. فهو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر الله وحده. ليس لمحمد فيه شيء. إنما هو الله الأمر الذي لا مرد لأمره، الحاكم الذي لا راد لحكمه.
قل يا أيها الكافرون.. ناداهم بحقيقتهم، ووصفهم بصفتهم.. إنهم ليسوا على دين، وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون. فلا التقاء إذن بينك وبينهم في طريق..
وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاح الخطاب، بحقيقة الانفصال الذي لا يرجى معه اتصال!
{لا أعبد ما تعبدون}.. فعبادتي غير عبادتكم، ومعبودي غير معبودكم..
{ولا أنتم عابدون ما أعبد} فعبادتكم غير عبادتي، ومعبودكم غير معبودي.
{ولا أنا عابد ما عبدتم}.. توكيد للفقرة الأولى في صيغة الجملة الإسمية وهي أدل على ثبات الصفة واستمرارها.
{ولا أنتم عابدون ما أعبد}.. تكرار لتوكيد الفقرة الثانية. كي لا تبقي مظنة ولا شبهة، ولا مجال لمظنة أو شبهة بعد هذا التوكيد المكرر بكل وسائل التكرار والتوكيد!
{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (6) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (5)}
ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه، والاختلاف الذي لا تشابه فيه، والانفصال الذي لا اتصال فيه، والتمييز الذي لا اختلاط فيه:
{لكم دينكم ولي دين}.. أنا هنا وأنتم هناك، ولا معبر ولا جسر ولا طريق!!!
مفاصلة كاملة شاملة، وتميز واضح دقيق..
ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق. الاختلاف في جوهر الاعتقاد، وأصل التصور، وحقيقة المنهج، وطبيعة الطريق.
إن التوحيد منهج، والشرك منهج آخر.. ولا يلتقيان.. التوحيد منهج يتجه بالإنسان- مع الوجود كله- إلى الله وحده لا شريك له. ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان، عقيدته وشريعته، وقيمه وموازينه، وآدابه وأخلاقه، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود. هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله، الله وحده بلا شريك. ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس. غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية.. وهي تسير..
وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية. وضرورية للمدعوين..
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها. وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف. أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا. ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد.. وهذا الإغراء في منتهى الخطورة!
إن الجاهلية جاهلية، والإسلام إسلام. والفارق بينهما بعيد. والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته. هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه.
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية: تصورا ومنهجا وعملا. الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق. والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام.
لا ترقيع. ولا أنصاف حلول. ولا التقاء في منتصف الطريق.. مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام، أو ادعت هذا العنوان!
وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس. شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء. لهم دينهم وله دينه، لهم طريقهم وله طريقه. لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم. ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير!
وإلا فهي البراءة الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح.. {لكم دينكم ولي دين}..
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم.. ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة، ثم طال عليهم الأمد {فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.. وأنه ليس هناك أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق،
ولا إصلاح عيوب، ولا ترقيع مناهج.. إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان، الدعوة بين الجاهلية. والتميز الكامل عن الجاهلية.. {لكم دينكم ولي دين}.. وهذا هو ديني: التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه، وعقيدته وشريعته.. كلها من الله.. دون شريك.. كلها.. في كل نواحي الحياة والسلوك.
وبغير هذه المفاصلة. سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع.. والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة. إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح... وهذا هو طريق الدعوة الأول: {لكم دينكم ولي دين}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}
نداء للمشركين بمكة، لما عرضوا عليه أن يترك دعوته ويملّكوه عليهم أو يعطوهم المال ما يرضيه ونحوه فرفض، فقالوا: تقبل منا ما نعرضه عليك: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فسكت عنهم فنزلت، وقالوا له: إن يكن الخير معنا أصبته، وإن يكن معك أصبناه.
وفي مجيء: قل، مع أن مقول القول كان قد يكفي في البلاغ، ولكن مجيئها لغاية فما هي؟
قال الفخر الرازي: إما لأنهم عابوه صلى الله عليه وسلم في السورة التي قبلها بقولهم: إنه أبتر فجاء قوله: {قُلْ}، إشعارًا بأن الله يرد عن رسوله بهذا الخطاب، الذي ينادي عليهم في ناديهم بأثقل الأوصاف عليهم، فقال له: {قُلْ يا أيها الكافرون}.
أو أنه لما كان هذا الخطاب فيه مغايرة المألوف من تخاطبه معهم من أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، وكان فيه من التقريع لهم ومجابهتهم، قال له: قل: إشعارًا بأنه مبلغ عن الله ما أمر به، وجاءت يا، وهي لنداء البعيد، لبعدهم في الكفر والعناد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)}
قيل، تكرار في العبادات للتوكيد، كتكرار {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15]، وتكرار: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13].
ونظيره في الشعر أكثر من أن يحصر، من ذلك ما أورده القرطبي رحمه الله:
هل لا سألت جموع كندة ** يوم ولو أين أينا

وقول الآخر:
يا علقمة يا علقمة يا علقمة ** خير تميم كلها وأكرمه

وقول الآخر:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ** إنك إن يصرع أخوك تصرع

وقول الآخر:
ألا يا سلمى ثم اسلمي ثمت اسلمي ** ثلاث تحيات وإن لم تكلم

وقد جاءت في أبيات لبعض تلاميذ الشيخ رحمه الله تعالى، ضمن مساجلة له معه قال فيها:
تالله إنك قد ملأت مسامعي ** درّا عليه قد انطوت أحشائي

زدني وزدني ثم زدني ولتكن ** منك الزيادة شافيًا للداء

فكرر قوله: زدني ثلاث مرات.
وقيل: ليس فيه تكرار، على أن الجملة الأولى عن الماضي والثانية عن المستقبل.
وقيل: الأولى عن العبادة، والثانية عن المعبود.
وقيل غير ذلك، على ما سيأتي إن شاء الله.
والسورة في الجملة نص على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد معبودهم، ولا هم عابدون معبوده، وقد فسره قوله تعالى: {فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكرم على هذا المعنى، عند آية يونس تلك، وذكر هذه السورة هناك.
وقد ذكر أيضًا في دفع إيهام الاضطراب جوابًا على إشكال في السورة وهو قوله تعالى: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ}، نفى لعبادة لـ: منهما معبود الآخر مطلقًا، مع أنه قد آمن بعضهم فيما بعد وعبد ما يعبده صلى الله عليه وسلم، وأجاب عن ذلك بأحد أمرين: موجزهما أنهما من جنس الكفار، وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارًا إلى آخره، أو أنها من العام المخصوص، فتكون خاص بالحاضر، لأن ما إذا دخلت على اسم الفاعل تعينه للحاضر.
وناقشه أبو حيان، بأن ذلك في مغالب لا على سبيل القطع.
والذي يظهر من سياق السورة، قد يشهد لما ذهب إليه الزمخشري، وهو أن السورة تتكلم عن الجانبين على سبيل المقابلة جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهة الكفار في عدم عبادة كل منهما معبود الآخر.
ولكنهما لم تساو في اللفظ بين الطرفين، فمن جهة الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في الجملة الأولى {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} عبر عن كل منهما بالفعل المضارع الدال على الحال: أي لا أعبد الآن ما تعبدون الآن بالفعل. ثم قال: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} فعبر عنهم بالاسمية وعنه هو بالفعلية، أي ولا أنتم متصفون بعبادة ما أعبد الآن.
وفي الجملة الثانية قال: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 4-5].
فعبر عنه بأنه ليس متصفًا بعبادة ما يعبدون ولا هم عابدون ما يعبد، فكان وصفه هو صلى الله عليه وسلم في الجملتين بوصفين مختلفين بالجملة الفعلية تارة وبالجملة الاسمية تارة أخرى، فكانت أحداهما لنفي الوصف الثابت، والأخرى لنفي حدوثه فيما بعد.
أما هم فلم يوصفوا في الجملتين إلا بالجملة الاسمية الدالة على الوصف الثابت، أي في الماضي إلى الحاضر، ولم يكن فيما وصفوا به جملة فعلية من خصائصها التجدد والحدوث، فلم يكن فيها ما يتعرض للمستقبل فلم يكن إشكال، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: إن الوصف باسم الفاعل يحتمل الحال والاستقبال، فيبقى الإشكال محتملًا.
قيل: ما ذكره الزمخشري من أن دخول ما عليه تعينه للحال، يكفي في نفي هذا الاحتمال.
فإن قيل: قد ناقشه أبو حيان.
وقال: إنها أغلبية وليست قطعية.
قلنا: يكفي في ذلك حكم الأغلب، وهو ما يصدقه الواقع، إذ آمن بعضهم وعبد معبوده صلى الله عليه وسلم، وما في قوله: {مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ}، واقعة في الأولى على غير ذي علم، وهي أصنامهم وهو استعمالهم الأساسي.
وفي الثانية: في حق الله تعالى وهو استعمالها في غير استعمالها الأستسي، فقيل: من أجل المقابلة، وقد استعملت فيمن يعلم، كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3]، لأنهن في معرض الاستمتاع بهن، فللقرينة جاز ذلك.
وقيل: إنها مع ما قبلها مصدرية، أي ما مصدرية بمعنى عبادتكم الباطلة، ولا تعبدون عباداتي الصحيحة.
وهذا المعنى قوي، وإن تعارض مع ما ذكر من سبب النزول، إلا أن له شاهدًا من نفس السورة ويتضمن المعنى الأول، ودليله من السورة قوله تعالى في آخر السورة: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، فأحالهم على عبادتهم، ولم يحلهم عهلى معبودهم.
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}
هو نظير ما تقدم في سورة يونس {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
وكقوله: {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [البقرة: 139].
وليس في هذا تقريرهم على دينهم الذي هم عليه، ولكن من قبيل التهديد والوعيد كقوله: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29].
وفي هذه السورة قوله: {قُلْ يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] وصف يكفي بأن عبادتهم وديانتهم كفر.
وقد قال لهم الحق {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2]، لأنها عبادة باطلة. عباد الكفار، وبعد ذلك إن أبيتم إلا هي، فلكم دينكم ولي دين.
تنبيه:
في هذه السورة منهج إصلاحي، وهو عدم قبول ولا صلاحية أنصاف الحلول، لأن ما عرضوه عليه صلى الله عليه وسلم من المشاركة في العبادة، يعتبر في مقياس المنطق حلًا وسطًا لاحتمال إصابة الحق في أحد الجانبين، فجاء الرد حاسمًا وزاجرًا وبشدة، لأن فيه أي فيما عرضوه مساواة للباطل بالحق، وفيه تعليق المشكلة، وفيه تقرير الباطل، إن هو وافقهم ولو لحظة.
وقد تعتبر هذه السورة مميزة وفاصلة بين الطرفين، ونهاية المهادنة، وبداية المجابهة.
وقد قالوا: إن ذلك بناء على ما أرمه الله به في السورة قبلها {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} [الكوثر: 1]، أي وإن كنت وصحبك قلة، فإن معك الخير الكثير، ولمجيء قل لما فيها من إشعار بأنك مبلغ عن الله، وهو الذي ينصرك، ولذا جاء بعدها حالًا سورة النصر وبعد النصر: تبُّ العدو.
وهذا في غاية الوضوح، ولله الحمد. اهـ.